وأركبه العباس و خشى عليه أن يدركه أحد المسلمين فيقتلة ، وأتى بأبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآه قال : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله
قال أبو سفيان : بأبي أنت و أمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عنى شيئا بعد
قال الرسول : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟
قال : بأبي أنت و أمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئا
فقال العباس : ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم وشهد شهادة الحق ثم أسلم حكيم بن خزام وبديل أبن ورقاء
وقال العباس للرسول إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ، وقد أرضاه الرسول صلى الله عليه و سلم كما يقول الشيخ الغزالي بما لا يضر أحد ولا يكلف جهدا فلما ذهب لينصرف قال رسول الله يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها – فلا تبقى فى نفسه أثارة لمقاومة – فخرج حتى حبسه بمضيق الوادي حيث أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحبسه
و تحركت كتائب الفتح وكانت القبائل تمر على راياتها كلما مرت قبيلة سأل العباس عنها فيقول مالي ولبني فلان ؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه و سلم فى كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد
فقال سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟
قال : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فى المهاجرين والأنصار
فقال أبو سفيان : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك بان أخيك الغداة عظيما
فقال : العباس يا أبا سفيان إنها النبوة
قال : فنعم إذن
وقام أبو سفيان فصرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن
فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربة فقالت اقتلوا الحميت (الضخم) الدسم الاحمس (الذي لا خير عنده) قبح من طليعة قوم
فقال أبو سفيان ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن
قالوا : قاتلك الله وما تغني عنا دارك
فقال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى الكعبة وإلى دورهم وأغلقوا أبوابهم ينتظرون ما يراد بهم
[b][u]مناوشات قليلة [/b][/u]
وقسم الرسول صلى الله عليه و سلم المسلمين إلى عدة فرق تدخل كل فرقة ناحية من نواحي مكة حتى يضع يده على المدينة كلها فى وقت واحد ، وأصدر أوامره المشددة إلى جميع الفرق ألا تقاتل أو تسفك دما إلا إذا أكرهت على ذلك إكراها ، وأن يعف الجيش عن أموال أهل مكة وممتلكاتهم وأن يكفوا أيديهم عنها وكان تقسيم الجيش على الوجه التالي
[table:8da4 border=0][tr][td]خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وعليه أن يدخل مكة من أسفلها[/td][td:8da4 vAlign=top].[/td][/tr][tr][td]الزبير بن العوام على الجناح الأيسر وعليه أن يدخل مكة من أعلاها عن طريق جبل كدى[/td][td:8da4 vAlign=top].[/td][/tr][tr][td]أبو عبيدة بن الجراح جعله على المهاجرين وعليهم أن يدخلوا مكة من أعلاها فى حذاء جبل هند[/td][td:8da4 vAlign=top].[/td][/tr][tr][td]سعد بن عباده ويدخل مكة من جانبها الغربي ناحية جبل كداء ومعه الراية حتى نزعت منه كما سنذكر ودخل رسول الله صلى الله عليه و سلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة وضربت له هنالك قبته[/td][td:8da4 vAlign=top].[/td][/tr][/table]
وروى أن سعد بن عبادة قال فى ذلك (اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا ) فشكا أبو سفيان إلى رسول الله ما سمعه من سعد بن عبادة فاستنكر رسول الله ذلك وقال : بل اليوم يوم المرحمة اليوم يعز الله قريشا ويعظم الله الكعبة
ودخلت الجيوش كلها مكة فلم تلق منها مقاومة إلا مناوشات قليلة بقيادة صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمر من قريش وبين أصحاب خالد بن الوليد فى الخندمه وهو مكان أسفل مكة ، وأصيب من المشركين كما يقول ابن اسحقا ثلاثة عشر رجلا ثم انهزموا ، وتم الاستيلاء على جميع أطراف مكة وضواحيها ودخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة وهو خافض رأسه تواضعا لله عز وجل حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح ، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة
وانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى وصل البيت فطاف بالبيت سبعا ، وكان فى يده قوس وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل كلما مر بصنم طعنها بالقوس ويقول : "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" والأصنام تتساقط على وجوهها
ورأى فى الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور فطمست وبالتماثيل فكسرت ، وكان مما رآه صور الملائكة وغيرها فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا فى يده الازلام ويستقسم بها فقال قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالازلام ما شأن إبراهيم والازلام {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} - سورة آل عمران آية 67
ولما قضى عليه الصلاة والسلام طوافة دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له ودخل ثم أعادها عليه السلام لعثمان قائلاً :خذوها يا بنى طلحة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم
وتكاثر الناس حول الرسول فى المسجد حتى امتلأ وهم ينظرون ماذا سيصنع الرسول بهم وقد مكنه الله منهم فنظر إليهم الرسول ثم قال : لا اله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات – آية 13
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟
قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم
قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لاخوته "لا تثريب عليكم اليوم" أذهبوا فانتم الطلقاء
وأمر بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة ورؤساء قريش وأشرافهم يسمعون كلمة الله تعلو وصداها يتردد فى أرجاء مكة ، ودخل الرسول دار أم هانىء بنت أبى طالب فاغتسل وصلى ثماني ركعات صلاة الفتح شكر الله تعالى على ما انعم به عليه
وبهذه الكلمات والتصرفات عفا الرسول عن كل شئ وتناسى كل إساءة وتجاوز عن جرائم قريش الماضية كلها حتى لقد امتد عفوه فشمل من كان قد أهدر دماءهم عند دخول مكة وإن تعلقوا بأستار الكعبة وقبل شفاعة من لم ينفذ فيه القتل منهم ورأت قريش تلك السماحة وذلك الكرم ففتحت للرسول قلوبها فكان هذا الفتح بلا شك أجل وأعظم من أن تصل إليه سيوف المسلمين فقد لانت أفئدة ما كانت لتلين ورقت القلوب القاسية والتفت حول الرسول فى إعجاب بالغ على الصفا حين جلس للبيعة
[b][u]بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهند بنت عتبة [/b][/u]
جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصفا واجتمع الناس حوله لبيعه على الإسلام فأخذ عليهم العهد بالسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا ، ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة زوج أبى سفيان متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة عم النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى صلى الله عليه و سلم لهن : بايعنني على ألا تشركن بالله شيئا
فقالت هند : والله إنك لتأخذ علينا أمرا لا تأخذه على الرجال وسنؤتيكه
فقال النبي : ولا تسرقن
فقالت : والله إني كنت أصبت من مال أبى سفيان الهنة وما كنت أدري أكان حلا لي أم لا؟
فقال أبو سفيان وكان شاهدا لما تقول : أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وإنك لهند بنت عتبة ؟
قالت : نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك
ثم قال : ولا تزنين
فقالت : يا رسول الله وهل تزني الحرة
ولما قال: ولا تقتلن أولادكن
قالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت وهم أعلم
فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى استغرب أي بالغ فى الضحك
فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : ولا تأتين بهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن
قالت : والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل
ثم قال : ولا تعصينني في معروف
قالت : ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد نعصيك فى معروف
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تسمه إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه