[center][color:759c=cyan][size=24]
[color:759c=cyan][size=24]بعد أن انتهت محاكمتنا في سراي الناصرية بُعيد الساعة العاشرة مساء طافت بنا السيارة الخشبية الكبيرة من الطراز المعروف بالعراق بـ فولفو ( Volvo ) على سجون المدينة جمعاء ، لكننا لم نعثر على مكان واحد لأي سجين منا ، فكل السجون المعدة للموقوفين كانت ملأى بالسجناء ، فمثلا كان سجن موقف سراي الناصرية مكتظا بنزلائه من شيوعيي المدينة ، ذلك الاكتظاظ الذي شاهدت أنا بعيني حين دخلته في المرة الأولى بعد نقلي إليه من سجن الجبايش مع المتهمين معي بذات القضية ولغرض ضبط إفاداتنا ، ولهذا لم يتعب المفوض ، حياوي ، نفسه في السؤال عن مكان لنا فيه لليلة واحد أو ليلتين على أقل تقدير ثم نغادر بعدها الى سجن الجبايش من جديد .
أخذتنا السيارة تلك ، وفي الساعة تلك كذلك الى سجن الحامية العسكرية الذي يقع في الجانب الثاني من الناصرية ، ولكننا لم نجد كذلك مكانا يأوينا حتى لليلتنا التي لم يتبق َ منها ساعات كثيرة ولهذا عادت بنا السيارة ثانية الى سجن الخيالة الواقع على مقربة من بناية إعدادية الناصرية ، وحالما ترجلت أنا من السيارة مع نفر من السجناء صاح بي أحد سجناء ذلك السجن : أهلا بمد الجبايش !
كان هذا الشخص هو واحد من أقربائي ، ويدعى المضمد الصحي ، شامخ زيدان ، وقد عرفنني هو رغم أنني لم أكن قريبا جدا منه ، وبمعرفته لي عرف أن السيارة التي دخلت الى بناية سجن الخيالة كانت قادمة من الجبايش ، وقد نادى علي من خلال باب السجن المصنوع على شكل قضبان حديدية قائلا : لا يوجد مكان لكم بيننا أبدا . فقد كانوا هم على كثرة ، والى حد كانوا فيه يتبولون وقوفا من باب السجن ذاك .
عاد المفوض حياوي لنا بعد اتصاله بمسؤولي هذا السجن خالي الوفاض ، وطلب منا الصعود الى السيارة ثانية ، تحركت السيارة مرة أخرى لتقف أمام باب سجن الأحكام الطويلة الذي يلاصق هذا السجن ، ولكن بابه الرئيس كان يقع على شارع آخر يؤدي الى المستشفى الجمهوري في المدينة ، ويقع كذلك قبالة المدرسة المتوسطة التي كنت أدرس أنا بها ، وكانت في ذلك الوقت تناوب إعدادية الناصرية للبنين في الدوام اليومي .
توقفت بنا السيارة عند باب ذلك السجن في وقت كانت الساعة فيه قد تخطت منتصف تلك الليلة ، مثلما تخطى التعب كل حدود تحملنا بعد أن هدّنا الترحال المتواصل ، فنحن قد غادرنا سجن الجبايش في ساعة مبكرة من ذلك اليوم الذي تناولنا فيه وجبة غذاء واحدة فقط . ومع هذا كنا نأمل في أننا سنحصل على مكان في هذا السجن هذه المرة ، ولكن لم تمض ِ دقائق كثير حتى عاد لنا المفوض حياوي ، وهو في أشد حالات التذمر قائلا لنا وللشرطة الذين يحرسوننا : أنا ذاهب الى داري لأنام فيها ، وما لكم أنتم غير هذا الرصيف لتناموا عليه ، ومن يريد منكم الهروب فليهرب ، وبأمر مني لا يستطيع أحد من أفراد الشرطة هؤلاء أن يمنعكم منه !
دار المفوض حياوي ظهره لنا ، ثم سار على قدميه باتجاه بيته الذي يقع في منتصف شارع الحبوبي من مدينة الناصرية ، أما نحن فقد أنزلنا أفرشتنا البسيطة من على ظهر السيارة ، ومددناها على ذلك الرصيف في ليلة قارصة البرد ، ولهذا اضطررت أنا أن أنام على حصير مصنوع من واحد من أنواع نبات البردي يسمى ( الجولان ) وتغطيت ببطانية خضراء تتقاطع فيها بعض الخطوط البيضاء ، وهي واحدة من البطانيات التي كانت تصلنا من الكويت ، ولكنها ما استطاعت أن تحميني من برد تلك الليلة .
استيقظنا على أصوات طلاب إعدادية الناصرية المتوجهين صباحا للدراسة فيها ، وقد رأيت بعضا من أصدقاء لي بينهم ، ولكنني لم أكلمهم خوفا عليهم ، بينما كانوا هم ينظرون باستغراب الى السجناء الذين حولوا ذلك الرصيف الى فندق ، وفي منظر يثير السخرية والحزن في آن واحد وربما تساءل البعض منهم كيف لسجناء النوم على قارعة الطريق ذاك ؟
لقد رفض مدير سجن الأحكام الطويلة دخولنا لذلك السجن بحجة قانونية كوننا نحن سجناء موقوفين ، وليس سجناء محكومين ، ولهذا طلب من المفوض حياوي أن ينتظر حتى يحصل هو على موافقة وزارة الداخلية في بغداد ، تلك الموافقة التي وصلت في صبيحة اليوم التالي بعد ليلة أمضيناها نياما على رصيف أكلت من روحه أقدام المارة ، وحال وصول تلك الموافقة أشرعت لنا أبواب ذلك السجن الذي تخيلناه قصرا جميلا ، فقد حططنا الرحال في قاعة فسيحة منه ، وبأرضية إسمنتية صقيلة ، تصطف أمامها حمامات صغيرة ، ومرافق صحية نظيفة ، وفي جهة منها تنتصب زنزانات عدت للمحكومين الذين نادى علي محكوم منهم بصوت خفيض في ليلة ذاك اليوم ، ومن كوة صغيرة في زنزانته ، وحين كنت أنا مارا أمامها في طريقي الى المرافق الصحية ، سأل : من أي سجن قدمتم ؟ أجبته : من سجن الجبايش . عاد ليسأل : ومن أية مدينة أنت ؟ قلت : من مدينة الفهود . قال : هل تعرف أنت المعلم كاظم داود سلمان ؟ قلت : نعم . أعرفه وهو صديق لي . وأين هو الآن : قلت : إنه يقبع في سجن نقرة السلمان الصحراوي.ثم أضفت أنا : هل أنت المعلم الذي حمل البريد الحزبي من الناصرية الى مدينة الفهود ، ذاك البريد الذي سقط بيد الشرطة على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم . قال : نعم . أنا ذاك .
في مساء يوم من أيام صيف ، وعلى عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، جاء هذا المعلم حاملا بريدا الى منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ناحية الفهود ، وقد شاهدته أنا وقتها يسير عصرا مع المعلم كاظم داود سلمان في الشارع الرئيس لتلك الناحية ، وقد جلسا في دكان الصابئي جاري جارح الذي كان هو مسؤول المنظمة تلك ، وكان هناك معلم بعثي توفاه الله الآن يدعى معلك حنون وهو من أبناء الناحية ، وكان يعرف كاظم داود والمعلم حامل البريد الحزبي هذا ، لأنهما درسا معه في دار المعلمين في مدينة الناصرية ، فقام بإخبار الشرطة في الناحية التي بادرت الى نصب كمين لمسؤول منظمة الحزب مساء ذلك اليوم ، فبمجرد وصول هذا المسؤول الى باب داره هاجمه أحد الشرطة ويدعى كاظم أيضا ، وجرده من بريد الحزب ، ثم ألقي القبض ، فيما بعد على الثلاثة جميعا ، وقد أودع حامل البريد ومسؤول التنظيم في سجون مركز مدينة الناصرية ، بينما سجن المعلم كاظم داود سلمان في سجن نقرة السلمان الصحراوي الذي يقع على مقربة من حدود المملكة العربية السعودية .
وأنا للآن لا أعرف السبب الذي جعل الشرطة أن ترمي المعلم كاظم داود سلمان بسجن في مجاهل الصحراء ، وهو لم يكن وقتها مسؤولا عن التنظيم في تلك الناحية ، ثم لم يكن هو من حمل البريد الى مدينة الفهود ، هذا في الوقت الذي ظل فيه مسؤول التنظيم وحامل البريد الذي لا اعرف اسمه في سجون مدينة الناصرية ، ويبدو لي أن السبب وراء ذلك يفسره النهج الذي سارت عليه دوائر الشرطة في العراق بعد زوال حكم البعث ، ذلك الذي سآتي عليها فيما بعد .
في اليوم الثاني لسقوط البريد الحزبي بيد شرطة الناحية أعتقل من أبناء تلك الناحية خمسة وعشرون شخصا ، وكنت أنا واحدا من بين هؤلاء ، وهذا أول اعتقال لي بتهمة الشيوعية ، وفي زمن حكم الزعيم عبد الكريم قاسم ، وكنت قد تخرجت ساعتها للتو في المرحلة الابتدائية ، وكان عمري وقتها يزيد بأشهر قليلة عن اثنتي عشرة سنة ، وكان السبب في ذلك ، مثلما عرفت فيما بعد ، أن البريد ذاك قد احتوى على خمس وعشرين بطاقة عضوية انضمام للحزب الشيوعي العراقي ، وبقدر عدد بطاقات العضوية تلك أعتقل العدد المذكور ، وكنت أنا أصغر واحد فيهم.
وأنني هنا أنقل هذا الحديث الذي دار بين بعض من هؤلاء الموقوفين ، والذي جاء في روايتي : المقهى والجدل ( السكون مطبق على المكان ، والوجوم يسيطر على الجميع ، تفرد كاظم القهوجي عنهم بكثرته ، فقد كان يسيل على وجهه فيض طاغ ٍمن الكآبة والحزن .
ــ: لماذا أنت هكذا ؟
ــ: لماذا أنا هكذا، إنهم سيرسلون جلودنا الى الدباغ ، ردّ كاظم بثقة ، وأضاف: وربما سيودعوننا السجن في مدينة الناصرية ، وعندها ستقفل المقهى ، وستموت الفرس والأطفال .
وهنا عاد الى وجهه شيء من البشر ، إذ شاهد سالما ورحيما يضحكان بارتياح طفولي ، فقد اعتاد كاظم أن يطلق على زوجته كلمة " الفرس " لا لشيء إلا لقبح صورتها ، أو ربما لكثير ما تطلبه منه ، فكم من مرة في اليوم وقفت فيها أمام المقهى ، تريد منه هذا الشيء أو ذاك ، وحين يكون رحيم جالسا في المقهى يناديه : كاظم ! جاءت الفرس !
ــ: ها ، ماذا تريدين ؟
[/color][/color]
[color:759c=cyan][color:759c=cyan]
[/size][/color]
[/size][/color][/center]